لقد اكدت تطورات الاحداث الاخيرة التي اعقبت الاعلان عن انتاج (فيلم الاساءة) حاجة العالم الى تشكيل جبهة عالمية ضد التطرف بكل اشكاله، وذلك للتصدي لظاهرة العنف والارهاب التي تجتاح العالم والتي سوف لن يسلم من شرها وشرورها احد، ولعل في الاحداث التي تجري اليوم في عدد من البلاد العربية، ومنها مصر وليبيا واليمن وغيرها، دليل واضح على هذه الحقيقة.
اننا في الوقت الذي نستنكر فيه انتاج مثل هذه الافلام التي تسئ الى المقدسات والرموز الدينية، نستنكر كذلك ردود الفعل العنفية التي ازهقت بسببها الارواح والانفس، فردة الفعل العنفية لا تقل اساءة للدين عن اساءة الفيلم ذاته، فكما ان الفيلم اساء للرسول الكريم (ص) عندما لفق امورا وزور اخرى، كذلك فان القتل باسم الدين او باسم الدفاع عن رسول الله (ص) يسئ الى الرسول الكريم (ص) قبل اي احد آخر.
وعلى الرغم من ان الفيلم سئ بكل المعايير، ان على صعيد المحتوى او على صعيد توثيق المادة، بل حتى على صعيد الرسالة التي اراد ايصالها للمتلقي، لكونه اعتمد على مجموعة كبيرة من الاكاذيب في محاولة منه لتضليل الراي العام، الا ان ردة الفعل التي تميزت بالعنف والارهاب جاءت اسوأ منه بكثير، ولذلك ينبغي على المسلمين كافة ان يتبرؤوا من الاثنين معا، من الفيلم وما احتوى ومن ردة الفعل العنفية، فكلاهما اساء لرسول الله (ص) ولقيم الاسلام الحنيف الذي بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، وليس نقمة ابدا.
ومن اجل ان نتحدث بلغة الانصاف والعقل، فليسمح لي المسلمون ان اهمس في اذنهم لاقول لهم، بان بعضا مما جاء في الفيلم من اكاذيب وافتراءات استقاها كاتب النص من بعض كتب (المسلمين) ولذلك فانا اعتقد جازما بان على المسلمين، اذا ارادوا ان يحموا ساحة رسول الله (ص) من اية اساءة مفترضة ان يطهروا كتبهم من الكثير من التهم والافتراءات التي اشتملت عليها الدفتين ضد رسول الله (ص) وان عليهم ان يثوروا ضد كتبهم قبل ان يثورا ضد هذا العمل السئ او ذاك، كما ان عليهم ان ينصروا رسول الله (ص) بتطهير كتبهم مما علق بها ضد رسول الله (ص) قبل ان ينصروه بردود الفعل العنفية ضد هذا الفيلم السئ او ذاك، فكتب (المسلمين) لا تقل اساءة لرسول الله (ص) عن مثل هذه الافلام السيئة، فهلموا ايها المسلمون لتطهير كتبكم من التهم والافتراءات ضد رسول الله (ص) لتبرؤوا ساحتكم اولا، وعندها فسوف لن تجدوا في هذا العالم من سيحاول الاساءة الى رسولنا الكريم، فالعقل يفرض علينا اصلاح الذات قبل لوم الاخرين.
ان الكثير من الاساءات التي يتعرض لها رسول الانسانية، محمد بن عبد الله (ص) تعتمد على الحشو الكثير الذي تحتويه كتب (المسلمين) لدرجة ان بالامكان، ربما، القول، بان من يتعرض الى الرسول الكريم (ص) باساءة لم يفعل اكثر من انه يحول النصوص المكتوبة الى مقاطع مصورة، ثابتة تارة، كما هو الحال بالنسبة الى رسوم الكاريكاتير، ومتحركة اخرى، كما هو الحال بالنسبة الى الفلم.
صحيح ان الفيلم وقبله رسوم الكاريكاتيرات وغيرها، هي اساءة صارخة لرسول الله (ص) ولكن، اوليس اصراركم الى اليوم على تسمية قاتل سبط رسول الله (ص) سيد الشهداء الامام الحسين بن علي عليهم السلام بامير المؤمنين هي اساءة صارخة لرسول الله (ص) كذلك؟ وهو الذي قال عنه (ص) {حسين مني وانا من حسين، احب الله من احب حسينا} و {الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا} و {الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة} اوليس تبرئة ابن آكلة الاكباد معاوية بن ابي سفيان من جرائمه البشعة التي ارتكبها ضد المسلمين وضد امير المؤمنين الخليفة الرابع الامام علي بن ابي طالب عليه السلام الذي نعته القرآن الكريم بنفس رسول الله (ص) في قوله تعالى {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين } هي اساءة صارخة لرسول الله (ص)؟ وهو الذي قال عنه (ص) {علي مع الحق والحق مع علي} و {انا مدينة العلم وعلي بابها، فمن اراد العلم فليات الباب}؟.
اوليس القتل والذبح وتفجير السيارات المفخخة وزرع العبوات الناسفة في الطرقات العامة والاماكن المكتضة بالناس لتقتل اكبر عدد ممكن من الابرياء باسم الدين وباسم الرسول الكريم (ص) كلها اساءات عظيمة بحق رسول الله (ص)؟ اوليس تكفير المسلمين واستباحة دماءهم واعراضهم باسم الاسلام وباسم الدين، اساءات عظيمة بحق رسول الله (ص) الذي قال {المسلم للمسلم حرام، ماله ودمه وعرضه} و{لهدم الكعبة حجرا حجرا اهون من قتل المسلم) و {لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار} واكثر عندما قال (ص) {من أتى سوقنا أو مسجدنا ومعه نبلٌ فليمسك على نصاله، وليقبض بيده، حتى لا يصيب أحداً من المسلمين بسوء}؟ اوليس الاساءة لغير المسلمين في بلاد المسلمين اساءة عظيمة لرسول الله (ص) الذي قال بحقهم {الا من ظلم معاهدا او انتقصه او كلفه فوق طاقته او اخذ منه شيئا بغير طيب نفس فانا حجيجه يوم القيامة} فما بالك بقتلهم وتفجير كنائسهم واستباحة اموالهم واعراضهم؟ ام انا اساءتنا للرسول (ص) مغفورة مهما عظمت، وان اساءتهم ليست مغفورة؟.
اوليس التغني بجرائم (السلف) والافتخار باعمالهم الشنيعة او على الاقل تبريرها والسكوت عنها بحجة كونهم (صحابة) لا ينبغي نقدهم او توجيه اللوم لهم او حتى مساءلتهم، كما يفعل الوهابي صاحب الذقن الطويل جدا في المقطع المصور على الشبكة العنكبوتية عندما يدعو (المسلمين) الى اتباع اثر (سيدنا) خالد بن الوليد وما فعله بـ (سيدنا) مالك بن نويرة عندما قتله واوقد قدر الطبيخ على راسه بعد ان فصلها عن جسده، ثم زنا بزوجته، في التعامل مع الاخر معتبرا فعلته هذه دينا وشريعة يجب الالتزام والتعبد بها؟.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان افعال (المسلمين) واعمالهم لا تقل اساءة لرسول الله (ص) عن الفيلم وما احتواه، والا، قولوا لي بالله عليكم، اولم يسئ الى رسول الله (ص) من يذبح ضحيته امام عدسات الكاميرا وقد ظهرت خلفه لافتة تحمل آية من كتاب الله المجيد ليوحي بها بانه يذبح الانسان على الطريقة الاسلامية، ثم يدعي ان فعله هذا ثمن للحضور على مائدة العشاء مع رسول الله (ص) في الجنة؟ فاية جنة هذه التي سيدخلها مثل هذا القاتل السفاح؟ واي رسول هذا الذي سيستقبل مثل هذا المجرم في جنان الخلد؟ واي رب هذا الذي سيسمح لمثل هذا القاتل ان يدخل جنته؟.
ولشد ما اثار استهزائي رسالة تلقيتها من مجموعة بريدية يبدو لي انها تابعة لجهة (ارهابية) حاولت ان تتناغم والموقف الجديد لتنظيم القاعدة الارهابي الساعي والداعي الى اعلان الهدنة مع الغرب، الرسالة افتتحها المشرفون على المجموعة البريدية بقول الله تعالى {من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكانما قتل الناس جميعا}.
حقا وكما قيل، فان شر البلية ما يضحك، فلم اشا ان ارد على الرسالة الا بالقول:
اتمنى عليكم ان تتذكروا هذه الاية وانتم تقتلون وتذبحون الابرياء في العراق وافغانستان وسوريا وغيرها من البلاد العربية والاسلامية، فالاية عامة تشمل كل الانفس.
ان الارهاب واحد لا يتجزأ، فلا يمكن ان يكون محمودا في مكان ومنبوذا في مكان آخر، او مقبولا في مكان ومرفوضا في مكان آخر، او صديقا لسياساتنا في مكان، وعدوا لها في مكان آخر، وان من اعظم الاخطاء التي يرتكبها الغرب اليوم، وتحديدا الولايات المتحدة الاميركية، هي انها تميز بين نوعين من الارهاب، فتتعامل مع نوع وترفض آخر، فهي تتعامل مع الارهاب في سوريا وتسعى من خلاله الى تصدير الديمقراطية وحماية حقوق الاسنان في هذا البلد، وكذلك في مصر وليبيا وقبل ذلك في العراق، فيما تشجبه في اماكن اخرى، وهي تتصور انها اذا اعتبرته صديقا في مكان ما فستامن شره في مكان آخر، ولقد اثبتت التجربة بان هذا النوع من التفكير غير السليم خطا في خطا، لا يستقيم مع المنطق والعقل ابدا.
لقد قلنا مرارا وتكرارا بان من يدعم الارهاب في اي مكان من العالم ستحترق اصابعه بنيرانه وفي اي مكان من العالم، وان من يحاول تصدير الديمقراطية بالارهاب سينقلب عليه ان عاجلا ام آجلا، وها هو الارهاب الذي مكنه الغرب وبمساعدة نظام القبيلة الحاكم في الجزيرة العربية وقطر في ليبيا ومصر، ينقلب عليهم ليحصد ارواح عدد من الدبلوماسيين الاميركان وعلى راسهم السفير الاميركي في ليبيا.
ان كيل الولايات المتحدة الاميركية بمكيالين ازاء ما يجري في البلاد العربية، هو الذي خلق كل هذا الاستنفار النفسي والعاطفي ضدها، والذي راح يتهمها بالوقوف وراء كل ما يجري من سوء للعرب والمسلمين، والا ما دخل الادارة الاميركية بانتاج (الفيلم السئ) لياتي الرد عليه بقتل عدد من دبلوماسييها؟ ولكن، ولكون الجو مشحونا بالعداء ضدها فان من المتوقع ان تستهدفها ردود الافعال مباشرة بلا تمييز.
ان على الولايات المتحدة الاميركية ان تعيد النظر في سياساتها في المنطقة، فقد يساعدها ذلك في التقليل من العداء المتزايد ضدها، وان اول ما عليها فعله هو ان تقرر فورا ايقاف سياسة الكيل بمكيالين، فتبادر الى دعم مظلومية الشعب المسالم في البحرين ضد السياسات الدموية لنظام القبيلة الحاكم في الجزيرة العربية والبحرين، من جانب، كما ان عليها ان تقرر فورا وقف كل انواع الدعم الذي تقدمه لجماعات العنف والارهاب، وايقاف كل انواع التعامل مع الارهابيين، وفي اي مكان كانوا، من جانب آخر، فالى متى تستمر واشنطن في دعم الارهابيين في سوريا بحجة دعم الديمقراطية وحماية حقوق الانسان، وتغض النظر عما يرتكبه نظام القبيلة من مجازر وحشية ضد الشعب في البحرين؟ ثم تنتظر من الراي العام العربي ان يتعامل معها بحسن نية فلا يحسب مثلا انتاج (فيلم الاساءة) عليها وعلى سياساتها؟ وهل يعقل ذلك؟.
ان واشنطن التي لازالت تدعم نظام القبيلة في دول الخليج، وبالذات في الجزيرة العربية، الذي اسس للتطرف والارهاب وسياسة الدم والهدم، فهو الداعم الاول والاكبر للفكر التكفيري الوهابي الذي يحرض على الكراهية بين بني البشر، لا يحق لها ان تنتظر من الراي العام ان يتفهم موقفها مما تسميه بمبدا حرية التعبير، الذي قاد الى انتاج (الفيلم السئ) فكيف تريد واشنطن ان تقنعنا بانها ضد التطرف في الوقت الذي لا زالت تدعم فيه التطرف ونظامه واسسه وقواعده؟ واقصد به نظام آل سعود؟.
ان توقف واشنطن عن سياسة الكيل بمكالين، قد يقنع الراي العام بانها مع الديمقراطية اينما كانت وضد الارهاب والعنف والتطرف اينما كان.
لقد اكدت تطورات الاحداث الاخيرة حاجة العالم الى تشكيل جبهة عالمية واحدة وموحدة ضد التطرف بكل اشكاله، الفكري والثقافي والفني والاعلامي والتطرف باللسان واليد، وفي كل شئ، بغض النظر عن هويته و (دينه) والى اي قارة ينتمي، فالتطرف واحد، والمتطرفون جبهة واحدة هدفهم تدمير البشرية ودق اسافين العداء والكراهية بين بني البشر.
فكما ان رد الفعل العنفي الذي ينتهي بمقتل انسان، كما حصل في ليبيا مثلا، تطرف سئ وغير محمود، فان انتاج فيلم يسئ الى الرسول الكريم (ص) فيثير مشاعر اكثر من نصف سكان الكرة الارضية، هو الاخر تطرف سئ وغير محمود.
واذا كانت ردة الفعل العنفية اضر بمصداقية المسلمين في العالم، فان انتاج (الفيلم السئ) كذلك اضر بمصداقية حرية التعبير والحيادية ازاء الدين التي تدعي الولايات المتحدة الاميركية انها تعتمدها كمبادئ اساسية ودستورية.
اخيرا، انصح العرب والمسلمين الى ان ينتبهوا لانفسهم فلا ينجروا وراء الفتن، انجرار الغنم الى مسالخها، فنحن اليوم في زمن تكثر فيه الفتن من اجل الهائنا والضحك على ذقوننا، ومن اجل ان نبدو وكاننا وحوش كاسرة وهمج رعاع لا تعرف كيف تعيش ولا تعرف كيف تتصرف بحكمة مع الفتن.
علينا جميعا ان نتحلى بالصبر والحكمة والعقلانية ونحن نتعامل مع الفتن والاثارات التي لن تنتهي ابدا.