السلام عليكم
اقرأ في روز ...
زاوية تلك الأيام ..
مقال د. محمد لبيب منصور
تنويريُّون على مقاصلِ التكفير ( المقال الثاني )
جاء احتفاءُ جوجل منذ عامين بذكرى ميلادِ عالم الفلك والرياضياتِ الطبيب الكيميائي والبيولوجي الفيلسوف نصير الدين الطوسي ( 1251-1274م ) بمثابة أكبر ردٍ على المعركةِ التي أشتعلت حولَه منذ قرونٍ بين مكفريه الذين غالوا في كيلِ الاتهامات له والمدافعين عنه باعتبارِه عالماً فذاً يستحق أن تُغسل صفحتُه مما لحق بها من اتهاماتٍ تعدتْ حدَّ اتهامه بالإلحاد والزندقةِ لتصل إلى حد اتهامه بخيانةِ المسلمين ومساعدةِ جيش هولاكو في الإستيلاءِ على بغداد!!
لقد كان قبول نصير الدين لمنصبِ الوزارة في بلاطِ هولاكو ( ما يوازي وزير البحث العلمي الآن ) أكبر مساهمةٍ في حمايةِ عشراتِ الآلاف من الكتبِ والمؤلفات والأثار العلميةِ القيمة إلى جانبِ إنقاذه حياة عددٍ كبير من العلماء جلبهم من مختلف البلادِ المحتلة ليعيشوا في كنفِه ويساعدوه في بناءِ مرصد المراغة الذي كان بمثابة أكاديمية علمية بالمعنى الحديث للكلمة جمع فيها أكثر من 400 ألفِ مجلدٍ من نفائس الكتب فأنقذَها من الحرق والفناء.
وعلينا أن نعترفَ أن موقفَه السياسي لم يكن هو السبب الحقيقي للهجومِ عليه وتكفيره، بل إن السبب هو ذلك العداءُ الخفي الذي يُكِنُّه الفقهاءُ ورجال الدين للعلماءِ والفلاسفة، وكأن العلم والدين في حالة صراعٍ ولابد لأحدهم أن ينتصرَ على الآخر، وكأن الإسلامَ دين يدعو إلى الجمودِ والجهل والتخلف.
كان ابن تيميه حاضراً كالعادة، مُتهِماً الطوسي بأنه كان مُنجِّماً يتبع أساليبَ السحرة والمشعوذين وهو ما يعد تجنياً واضحاً عليه لما فيه من خلطٍ بين علمِ الفلك، القائم على رصدِ حركة الكواكب وتحديد مساراتِها، وبين التنجيم.
يقول ابن تيمية عن الطوسي ما نصه: " ثمّ لمّا قدِمَ الترك المشركون إلى بلادِ المسلمين، وجاؤوا إلى بغداد دار الخلافة، كان هذا منجِّماً مشيراً لملك التركِ المشرك هولاكو، أشار عليه بقتلِ الخليفة وقتلِ أهل العلم والدين، واستبقاء أهلِ الصناعات والتجاراتِ الذين ينفعونه في الدنيا، وأنّه استولى على الوقفِ الذي للمسلمين، وكان يعطي منه ما شاء اللّه لعلماءِ المشركين وشيوخِهم من البخشية السحرة وأمثالهم. وأنّه لمّا بنى المرصدَ الذي بمراغة على طريقةِ الصابئة المشركين، كان أبخسَ الناس نصيباً منه من كان إلى أهل المِللِ أقرب، وأوفرهم نصيباً من كان أبعدهم عن المِلل، مثل الصابئةِ المشركين ومثل المعطلة وسائر المشركين".
هنا يدَّعى ابن تيمية أن الطوسي هو الذي أصدر الأمرَ بقتلِ الخليفة!! لا أدري كيف يتأتَّى ذلك؟ وكيف يتخلّى هولاكو السفاح، قاهر الدول ومذلّ الملوكِ عن سلطاتِه ليجعلَها في يد رجلٍ أسيرٍ لديه يأمرُ وينهي؟ ولا يجد ابن تيمية غضاضةً في أن يبرِّئَ الطاغية الوثنيَّ هولاكو من الأمرِ بقتل الخليفة، ويلصق ذلك بالعالمِ نصير الدين الطوسي لأسبابٍ تتعلق بمترادفاتٍ عاش وبنى عليها كل مجدِه وتاريخِه مثل " الصابئة - المشركين - المِلل - الكُفر - الملاحدة " ... إلخ .
لم يرَ ابنُ تيمية مدارسَ الفقهِ والحديث، والطبّ والفلسفةِ التي افتتحها الطوسيُّ، والتي كان يتولى الإنفاق على طلابِها من مالِه الخاص، حيث كان سابقاً لعصره في التشجيعِ على العلمِ والتطور، فكان يهَب لكل طالبٍ من دارسي الفلسفة ثلاثةَ دراهم يومياً، ولكل طالبٍ من دارسي الطبّ درهمين، ولكل طالبٍ من دارسي الفقهِ درهماً واحداً، ولكل طالبٍ من دارسي الحديث نصفَ درهم، فأقبل الناسُ على معاهدِ الفلسفة والطبّ، بعدما كانت من قبل تُدَرَّس سرّاً.
لم يرَ ابن تيمية إنجازات الطوسيِّ العلمية كقيامِه بوضع الجدولِ الأدق لحركةِ الكواكب في ذاك الوقت في كتابه "الزيج الأخليني"، وتمكُّنِه من وضع وصفٍ دقيقٍ لمجرَّة دربِ التبانة في كتابِه "التذكِرة"، ثم قيامه بصياغةِ قانون بقاء المادة الذي سبق اكتشافَ الغربِ للقانون بـ 500 عام .
بالطبع كان ابن تيمية ورفاقُه منشغلين بأمورٍ أخرى أكثر أهمية من ذلك ، وهي أمورٌ بالطبع لن تكون لها علاقة بالعلم، ويقيناً سيكون لها علاقة بالسيرِ عكس حركة التاريخ .
كما لم يرَ ابن تيمية وفودَ الخيانة التي تزاحمت على بابِ هولاكو ملوكاً وسلاطين، بل أبصر الطوسي وحده في مقدمةِ الخونةِ وترك العشرات من الذين تسابقوا إلى نُصرةِ المغول مثل جعفر خوجا وحسن ودانشمند الحاجب ، ومثل محمد يلواج، وأيضا فخر الدين محمود بن محمد الخوارزمي.
وبعد الزحفِ إلى بلاد الشام، نذكرُ ممن ساروا مع هولاكو لقتالِ المسلمين، الملك السعيد بن الملك العزيز بن الملك العادل أخي صلاح الدين الأيوبي، وكان الملك السعيد هذا في معركةِ «عين جالوت» يقاتل مع المغول، فلما انهزموا أسرهُ المسلمون ثم قتلوه، وكان معهم أيضاً الملكُ الأشرف موسى صاحب حمص، وهو من أحفادِ شيركوه عم صلاح الدين الأيوبي. وممن حرّضوا المغولَ على غزوِ الشام ومصر الملك المغيث فتح الدين عمر بن الكامل ابن العادل شقيق صلاح الدين الأيوبي، الذي شارك في معركةِ (عين جالوت) فأسره الظاهر بيبرس وقتله بيده.
لم يرَ ابنُ تيمية كل هؤلاء ومنعه الجمودُ والإنغلاقُ من أن ينصفَ الطوسي ويضعَه في المكانة التي يستحقها، بل تخلى عن موضوعيتِه وعمد إلى تكفيرِه وتشويهه والنيل منه لا لشيءٍ سوى لاختلافِه المذهبي معه .
وعلى الجانبِ الآخر نجد علماء أكثر موضوعية في تقييمِهم لإنجازات نصير الدين مثل العالم الأزهري ( السني ) الشيخ عبد المتعال الصعيدي الذي قال عنه: «لم يمُتْ نصير الدين الطوسي إلاّ بعد أن جدّد ما بلِيَ في دولة التتار من العلومِ الإسلامية، وأحيا ما مات من آمالِ المسلمين بها.. إن الانتصار على التتار لم يكن في الحقيقةِ بردِّهم عن الشام في موقعة «عين جالوت»، وإنما كان بفتحِ قلوبهم للإسلام وهدايتِهم له. هذا ما حققه الخواجا نصير الدين الطوسي، وبه استطاع أن يهزمَ بالعقل والعلم الدولةَ الطاغية الباغية، ونجحت خططُه في التمهيدِ لتحويل المغول من وثنيين إلى مسلمين».
إن العالمَ من حولنا يعرف قيمةَ علماءِنا ويقدُّرهم ويضعُهم في المكانة الحقيقية التي يستحقونها، في حين لانزال نحن نناقشُ درجةَ إيمانهم فنَصِم هذا بالكفرِ والإلحادِ ونخلع على ذاك صفاتِ التقوى والقداسة.
ولعلنا نندهش حين نعلم أنه في العام1979 عندما اكتشف عالمُ الفلك السوفيتي نيكولاي ستيبانوفيتش كوكباً جديداً أطلق الروس عليه اسمَ "طوسي 10269" تخليداً لذكراه. كما أن هناك فوهةً صدمية عرضُها 60 كم في الجزءِ السفلي من سطحِ القمر سميت " نصير الدين- Nasireddin" تكريماً له وتخليداً لذكراه أيضاً.
إننا نحتاج إلى أن نكون أكثر سلاماً مع الآخرين ومع أنفسِنا لندركَ أن الأرض من حولنا تتسعُ للجميع وأن الديانات جميعا جاءت لخدمةِ البشرية والسموِّ بها عن الصراعاتِ والحروب والضغائن.
إننا جميعاً أبناءُ الله فكيف يظن البعضُ أن التقرب إلى الله من الممكن أن يتم بإزدراء العلم أو بترويعِ الآمنين أو بإنكار الآخر وتكفيرِه ؟.
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]