هاجس الهوية الشيعية في فكر الدكتور علي المؤمن
د. راشد الراشد
(باحث وأكاديمي من البحرين)
يشير الدكتور علي المؤمن الى وجود مجموعة من العوامل التي تقف وراء صمود وبقاء «التشيع» كمنظومة عقدية وفكرية، رغم قسوة وضراوة ما تعرض له الشيعة طيلة تاريخهم من ألوان القهر والاضطهاد، وفي فترات هي الأشد قسوة وتوحشاً عندما تعرض «الشيعة» الى القتل على الهوية، كما حدث في عدة عهود وحقب تاريخية مضت، ونالت من وجودهم المعنوي وحضورهم الشيء الكثير، لكن كل تلك الحملات الشعواء لم تستطع إنهاء وجود الاجتماع الشيعي أو تصفيته والقضاء عليه، بل يمكن ملاحظة أن الضربات القاسية التي تعرض لها الشيعة على مدار التاريخ، منذ فجر الإسلام، وتحديداً مع الدولة الأموية، مروراً بالدولة العباسية، وبجميع العهود التي تلتها، وإنتهاءً الى وقتنا الراهن، حيث نجد استمرار الحملات القاسية لتحطيم «الشيعة» وتدمير كل ما يتصل بهويتهم ومكونات نظامهم الديني الاجتماعي وهيكلته؛ نلاحظ انتشاراً وتمدداً استثنائياً لظاهرة الاجتماع الشيعي، حتى يمكننا القول بأنها الظاهرة الاجتماعية الفريدة عالمياً التي لا تمتلك عوامل البقاء والصمود وحسب، إنما تمتلك عناصر القوة والتفوق والانتشار التي تجعلها البديل الحضاري العالمي الأمثل.
ولم تتوافر هذه الأسباب والعوامل من فراغ، إنما لوجود عناصر ثابتة مولدة لها ذاتياً. وما يهمنا في هذا السياق الإشارة إلى واحدة من هذه العناصر المهمة التي يمكن ملاحظتها بوضوح في «الاجتماع الديني الشيعي»، وهي عالمية «النظام الاجتماعي الديني الشيعي»، بمعنى أن "التشيع" ونظامه الاجتماعي، بما هو كيان فكري ومنهج وسلوك حياتي وعقدي؛ لم يأت لمكون عنصري أو إثني أو جغرافي أو عرقي محدد، إنما تفوّق «النظام» بأنه الفكرة الاجتماعية العقدية العابرة لكل عناصر التجزئة في الفكر الإنساني، من قبيل العنصر واللون والعرق والانتماء الإثني والجغرافي. فبالإضافة إلى قدرة «النظام» على تحطيم كل ما يمكن أن يكون عنصراً من عناصر التجزئة والتفتيت؛ فإنه استطاع أن يتجاوز كل الأطر الضيقة التي يمكن أن تحبس الأفكار في صناديقها الضيقة، وتجعلها مهيئة تماماً للتحلل والاضمحلال ثم الإندثار؛ إذ أن الفكر الذي ينطوي على عناصر التفكيك والتجزئة؛ فإنه بطبيعته يعمل على تجزأة المجزأ وتفتيت المفتت، وصولاً إلى الإضمحلال والتلاشي والفناء. أما التشيع ونظامه الاجتماعي؛ فإنه ظل متماسكاً بكل عناصر تشكله وهيكليته وإطاره.
الهوية الشيعية الواحدة:
يتمتع الشيعة بهوية واحدة، لها خصائصها وسماتها ومميزاتها الخاصة، التي لا تختلف بين مكان وآخر أو بين فئة من هذا المكون والفئات الأخرى. وهذه إحدى أهم عناصر القوة المكونة للاجتماع الشيعي الذي ينبغي معالجته بالدراسة والتحقيق؛ فرغم التنوع والتعدد الهائل في الاجتماع الشيعي، من حيث تعدد الأعراق والقوميات والانتشار الجغرافي الواسع، الذي يشمل القارات الخمس، إلّا أنّ الهوية الواحدة في الفكرة والبعد العقدي للاجتماع الشيعي هو الحاضنة الكبرى الجامعة والموحدة لكل هذا التنوع والتعدد، بحيث يمكن ملاحظة الفوارق الفنية في كل شيء إلا في مضمون الهوية والاجتماع الديني الشيعي. ولم تأخذ الفوارق الطبيعية المتصلة بالعرق أو العنصر أو اللون أو القومية أي أثر في تجاوز وحدة الهوية في الاجتماع الشيعي، مع وجود الفوارق الفنية الشاسعة في طبيعة تشكل بيئة الاجتماع الشيعي من حيث الأعراق والقوميات المنتمية إليه.
لقد قام الباحث الدكتور المؤمن بمناقشة إشكاليات الهوية الشيعية في الفصل الثامن من الكتاب، شارحاً علاقتها بمعايير الانتماء المذهبي والقومي والوطني. في الوقت الذي تناول فيه بشيء من التخصيص حول انعكاس الاجتماع الديني والثقافي في النجف الأشرف على الهوية الشيعية، باعتبارها من وجهة نظر الباحث الحصيف، تمثل المركزية التقليدية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، مع ما كان ينبغي لجمال وكمال البحث أن يركز في محاور وموضوعات وأفكار البحث بعيداً عن التوصيفات التي تنزع من البحث قيمته المعرفية، بما يُعرف في فضاء قضايا الفكر ومناهجه بالإنحيازات المسبقة.
بحث المؤسسة المرجعية والحوزة العلمية.
رغم مكانة المؤسسة المرجعية والحوزات العلمية كمؤسسات أساسية يقوم عليها «النظام الديني للاجتماع الشيعي»؛ فإن الهوية أكبر وموضوع أعمق من اختزاله بثقافة مجتمع أو مؤسسة ما، مهما تعاظمت مكانتها ودورها في رفد حركة التشيع على أرض الواقع، ولا يمكن لعنصر بمفرده مهما كانت أهميته وخطورة الدور الذي يلعبه، من أن يكون المصدر الوحيد لقراءة معرفية رصينة لكيان تلعب فيه مجموعة من العوامل المتشابكة في تشكيل هيئته وهويته. صحيح أن المؤسسة المرجعية والحوزات المنبثقة عنها يمكن أن تحتل مساحة واسعة من تمثيله، باعتبارهما العمود الفقري الذي يقوم عليه بناء التشيع، ولكن مهما تعاظم دورهما لا يمكن بحال جعلها في مقام المذهب نفسه والاجتماع الديني الشيعي، بالنظر لتضافر مجموعة من العناصر في تكوينه وتشكيله وتطويره، وذلك بالرغم مما للمؤسسة المرجعية والحوزات العلمية من ثقل واضح على المذهب بما هو عقيدة وفقه، وعلى الاجتماع الديني الشيعي بما هو كيان واقعي قائم.
تعتبر المؤسسة المرجعية ومؤسسة الحوزة العلمية لها من المقومات الأساسية التي يقوم عليها الاجتماع الديني الشيعي، وفي هذا السياق عالج الأستاذ المؤمن في الفصل الثاني من كتابه «المسار التاريخي للنظام الإجتماعي الديني الشيعي»، حيث بذل جهداً ملحوظاً في رصد مرحل تأسيس النظام الذي يقوم عليه كيان الاجتماع الديني الشيعي، وذلك كما أشار الباحث، منذ عصر الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحتى وقتنا الراهن. ثم تناول بشيء من التفصيل والتخصص في الفصل الثالث من البحث البنية العقدية والفقهية للاجتماع الديني الشيعي، والتي تناول فيها القواعد الأساسية التي يقوم عليها الاجتماع الديني الشيعي، كقضية مؤسسة المرجعية، وما يرتبط بها من بحث مسألة التقليد وتأثيراتهما المباشرة في الإجتماع الديني الشيعي.
بالطبع؛ لم يتجاوز الباحث قضية التعدد والتنوع في المؤسسة المرجعية، وكيفية تطور المفاهيم المتصلة بالمؤسسة المرجعية، وعلاقتها المباشرة في التصدى وتحمل مسؤولية الاجتماع الديني الشيعي في مختلف المجالات المتعلقة بالقضايا والتحدّيات المعاصرة للاجتماع الديني الشيعي. أما الركيزة الأخرى التي يقوم عليها بناء الاجتماع الديني الشيعي، والذي يكمن في مؤسسة الحوزة العلمية؛ فقد خصص لها الباحث فصلاً مستقلاً، يتناول فيها الحوزة العلمية باعتبارها المؤسسة الدينية للنظام الاجتماعي الديني للشيعة، وعقد مقارنات ومقاربات مهمة بين الحوزتين العلميتين في النجف الأشرف وقم المقدّسة لأهميتهما في النظام الديني الشيعي.
وهنا ركّز الباحث الدكتور علي المؤمن في هذا الفصل من بحثه القيم على محور له أهميته الخاصة في الفكر الديني الشيعي، بل والبناء العقدي للنظام الديني الإجتماعي للشيعة، لكن تجدر الإشارة إلى أن الباحث فاته التعريف بالحوزة العلمية وتبيان أهميتها ودورها في النظام الديني للتشيع، واستعراض التطور الحاصل فيها، مروراً بمراحل التأسيس، ووصولاً إلى وضعها الراهن، تعريفاً وتأصيلاً لموقع الحوزة العلمية كركيزة من الركائز المهمة التي يتشكل منها النظام الديني للتشيع.
عناصر القوة في الإجتماع الديني الشيعي:
لم يفت الباحث الحصيف الدكتور علي المؤمن أن يخصص فصلاً كاملاً مستقلاً لتناول عناصر القوة في الاجتماع الديني الشيعي، والذي أستعرض فيه ما يربوا على إثني عشر عنصراً من عناصر القوة التي تشكل الحماية الرصينة الثابتة للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، وهو حجر زاوية في مشروعه الخاص بتأسيس علم خاص بالاجتماع الديني الشيعي. ورغم أهمية العناصر التي أشار إليها الدكتور المؤمن كعناصر قوة للاجتماع الديني الشيعي، لكن، وباعتبار البحث محاولة علمية لتحريك موضوع البحث لدى المهتمين والباحثين ومن يعنيهم تطور الفكر الإنساني والإسلامي والشيعي على وجه الخصوص؛ كان لابد من الإشارة إلى عناصر القوة في الفكرة والمنهج. أما الطقوس الدينية كالمزارات والمقامات ووجود جماعات المقاومة وحتى الإشارة الى ايران باعتبارها رأس الحربة في المجابهة الحضارية القائمة؛ لا يمكن أن يكون دالاً من ناحية الموضوع على أهميتهما في تشكيل الاجتماع الديني الشيعي القائم على الأرض.
إن الاجتماع الديني الشيعي بما هو فكر وقضية عقدية؛ يمتلك من عناصر القوة في مضمونه الحضاري والأخلاقي والفكري، وحتى العقائدي، ما يجعله متفوقاً على كل محاولات التحريف والتزوير، وما تؤدي إليه الصراعات السياسية على هذه المضامين الروحية والفكرية والأخلاقية. ويكفي الإشارة هنا، رغم ما تعرض له الشيعة من قمع طيلة قرون في معظم مناطق تواجدهم، إلّا أن اجتماعهم الديني ظل قائماً بدون الكثير من الطقوس، مع ما تشكله من رمزية في الفكر الشيعي، وكان كذلك مستمراً وقائماً ولقرون متطاولة، من دون الطقوس المعروفة في القرن الأخير، وكذلك من غير ايران المعاصرة وثقلها الكبير في الاجتماع الديني المعاصر. ومن الأهمية بمكان، رفد هذا البحث بالمزيد، لمقاربة عناصر القوة في الاجتماع الديني الشيعي، بما هو فكر ومنهج ونظرية، ثم يمكن القيام بالإسقاطات اللازمة من عناصر التأثير القائمة في وقتنا الراهن، والإشارة إلى مراحل تطورها في تاريخ الاجتماع الديني الشيعي.
لقد تناول الدكتور المؤمن بشكل متميز، موضوع التمايز والتكامل بين المجتمعات الشيعية، وعلاقة كل مجتمع من هذه المجتمعات بالدولة والسلطات والأنظمة السياسية القائمة في بلدانها المحدّدة، وقد اختار ــ في تحليله ــ ستة نماذج، هي الأبرز والأهم على مستوى دراسة الاجتماع الديني الشيعي، لطبيعة ما تمثله من ثقل ومكانه في هذا الإجتماع، سواء من حيث المسألة الدينية أو الفكرية أو ما يتصل بالهوية والانتماء العقدي، وهذه النماذج الشيعية الستة، كما وردت في البحث، هي: المجتمعات الشيعية الخليجية، العراقية، الإيرانية، اللبنانية، الأذربيجانية والهندية، والتي أعتبر الباحث الكريم تمايزها، يمثل تهديدات وفرص مهمة حقيقية للاجتماع الديني الشيعي في الوقت ذاته، مع أن هناك وجود شيعي يعتد به في أماكن أخرى متفرقة من العالم، وتشكل في وجودها جزءاً مهماً من الاجتماع الديني الشيعي الذي ينبغي عدم حصره في منطقة جغرافية محددة، نظراً لتميزه الكبير في هذا الاتجاه.
مستقبل «النظام الاجتماعي الديني الشيعي»:
في الفصل الأخير من البحث المميز، وهو الفصل التاسع، عالج الدكتور علي المؤمن مسألة مستقبل قيادة «النظام الإجتماعي الديني الشيعي»، وقد ركّز الباحث هنا على المستقبل الذي سيخلف المرجعية الدينية الحالية التي تتصدر مشهد الاجتماع الديني الشيعي، متمثلة في مرجعيتي السيد على الحسيني السيستاني والسيد علي الحسيني الخامنئي، وقد استفاض في مناقشة السيناريوهات المحتملة لما بعد هاتين المرجعيتين الكبيرتين، نظراً لمساحة تأثيرهما الكبير على الاجتماع الديني الشيعي في وقتنا المعاصر، وأستغرق في الحديث عن ما ينتظر مسألة (قيادة) الاجتماع الديني ومستقبله، في ضوء المعطيات القائمة الراهنة. وكنت أتمنى ــ كما أشرت في قرائتي السابقة ــ أن يبقى هذا البحث بمثابة عمل مفتاحي لموضوع يتصل بالإجتماع الديني وليس بحثاً تحليلياً سياسياً.
في تقديرنا؛ فإن دراسة مستقبل أي نظام اجتماع ديني بحاجة إلى التأصيل في عناصر تشكله الأساسية، دون النزوح إلى الاستغراق في بعض تفاصيله، وقد كان بالإمكان الاستفادة من بعض التفاصيل على الأرض، لا بنحو الاستغراق، وإنما كشواهد وأمثلة دالة في التأصيل المنهجي للفكرة، لأن إنتزاع البحث من مساره المنهجي بالاستغراق في التفاصيل، لا يساعد في التأسيس لخلق قاعدة علمية منهجية في دراسة موضوع بحثنا، وهو التأسيس لعلم اجتماع ديني شيعی، يتجاوز التأثيرات المرحلية لبعض الشخصيات والمؤسسات، مهما تعاظم دورها؛ فهذا الاجتماع الديني الشيعي ظل قائماً وشامخاً قرون متطاولة، لأسباب وعوامل تتجاوز العناصر المرتبطة بوقت ومرحلة ما من عمر هذا الاجتماع، وهذه قضية البحث الأساسية التي ينبغي تركيز جهد البحث العلمي فيها، وصولاً إلى معرفة الأسباب الموضوعية التي أدت إلى تطور الاجتماع الديني الشيعي وبقائه واستمراره، رغم المنعطفات الحادة التي مرت في تاريخه.