الظروف السياسيّة الّتي أحاطت بولادة الامام المهدي (عليه السلام)
من الواضح لدى كل مَنْ له إلمام بالتاريخ الاسلامي ، وبسيرة أئمّة أهل البيت (ع) ، وبصراعهم مع الخطّين الاموي والعبّاسي ، من الواضح لدى المطّلع على مجرى هذا الصراع، أن أئمّة أهل البيت (ع) وخطّهم الفكري والسياسي، كان يشكِّلُ قوّةَ المعارضة والمواجهة السياسية لتلك الاتّجاهات والسّلطات ; لذلك تحمّل أهلُ البيت (ع) ألوانَ الِمحنِ والقتل والملاحقة والسّجن والتشريد، وكثيراً ما اضطرّتِ الِمحنُ وتردّي الاوضاع آلَ علي ، إلى الثورة والصراع المسلّح .
وينقلُ لنا المؤرِّخون المعاناة العصيبة الّتي عايشها الامام الحسن بن عليّ العسكري من حكّام عصره العبّاسيين ، ومواجهتهم له ، كما يحدِّثنا عن اضطراب الاوضاع الامنية والاخلاقية والسياسية والاقتصادية ، واشتداد خوف السلطة من أئمّة آل البيت (ع) .
وفي تلك الفترة المضطربة يُثَبِّتُ الرواةُ ولادةَ الامام محمّد بن الحسن المهدي (ع) .
ولاهميّة هذه الشخصية العظيمة ، ودورها التاريخي الخطير في حياة البشرية الّذي يحقّق أهداف الرّسالات الالهيّة ، ينبغي لنا أنْ نعرفَ الظّروفَ السياسيةَ الّتي أحاطتْ بولادته وغيبته ، كما دوّنتها مصادرُ التاريخ ، فإنّ المصادر الشيعية تذكر أنّ ولادة محمّد ابن الحسن المهدي هي سنة (255 هـ ) ، بسرّ من رأى ، في عهد الخليفة العبّاسي محمّد ابن الواثق المهتدي ] بعد توليه الخلافة بما ينيف على عشرة أيّام [ ، فقد نقلت كتبُ التاريخ الاوضاعَ السياسية المضطربة ، بالشكل الّذي جعلَ البيتَ العبّاسي يعيشُ في حالة من الصراع الداخلي والتردّي الاخلاقي وتنازع الاباء والابناء والاخوة فيما بينهم على السلطة والملذّات ، ممّا أضعف هيبةَ السلطة وجَرَّأَ عليها القيادات العسكريةَ وذوي المراكز السياسية وأصحاب النفوذ ، وبشكل جعلَ مِن الخليفة العباسي اُلعوبةً بيد هذه القُوى، خصوصاً الاتراك الّذين كانوا يحتلّون مواقعَ مؤثّرةً في السلطة آنذاك، كما فسحتْ تلكَ الظروفُ السياسية المضطربةُ ، المجالَ أمامَ الثوّار العلويين للتحرّك والانطلاق بثوراتهم ضدّ السلطة العباسـية ، في تلك الفـترة المضطربة الّتي أحاطتْ بولادة محمّد بن الحسن المهدي ، قُتِلَ المعتز ، قُتِلَ في رجب سنة (255 هـ ) ، أي قبل ثمانية عشر يوماً من ولادة الامام محمّد بن الحسن المهدي ، على ما يستفاد من مجمل الروايات التاريخية المتحدّثة عن تلك الفترة . وبعد المعتز ولّي الخلافة ابنه المهتدي في اليوم الّذي مات فيه أبوه .
وهكذا يتّضح أنّ الامام المهدي ، وفق الروايات ، كان قد وُلِدَ في عهد محمّد المهتدي ، الّذي استمرّ حكمه نحو سنة ، ثمّ وقع الخلاف بينه وبين الاتراك فأجهزوا عليه وقتلوه، وكانت وفاته في رجب عام (256 هـ )، ثمّ وُلّي الخلافةَ من بعده (المعتمد) أحمد بن جعفر المتوكِّل العبّاسي ، في اليوم الّذي مات فيه المهتدي .
لنقرإِ الوثائق التاريخيّة الّتي تحدّثت عن تلك المرحلة ، ولنعرفِ المحنةَ العصيبةَ الّتي أحاطت بآل أبي طالب ، من ذرِّيّة الحسن والحسـين (ع) ، وجعفر بن أبي طالـب ، لنشخِّصَ الظروفَ الّتي أحاطت بغيبة الامام المهدي ، والمعاناة الصعبة الّتي غيّرت أحداث التاريخ .
لقد حدثت في تلك الفترة ملاحقات ظالمة للعلويين، كما وقعت ثورات وانتفاضات علوية ، فقد سجّل لنا أبو الفرج الاصفهاني ، أسماءَ الطالبيين الّذين قُتِلوا أو حُبِسوا أو ماتوا بالحبس والتعذيب في سجون العبّاسيين .
فلنقرأ ما دوّنه أبو الفرج الاصفهاني وغيره من كتّاب التاريخ ، ولنتأمّل فيها مليّاً ، قال :
«وتوفِّي في الحبس عيسى بن إسماعيل بن جعفر ... » وهو من ذرِّيّة الامام الحسن ابن عليّ بن أبي طالب (ع) .
«وقُتِلَ بالرّي جعفرُ بن محمّد بن جعفر ... » وهو من ذرِّيّة الامام عليّ بن الحسين ابن عليّ بن أبي طالب (ع) .
«وقُتِلَ إبراهيمُ بن محمّد ... » وهو من ذرِّيّة العبّاس بن عليّ بن أبي طالب (ع) .
«وحَبَسَ الحرثُ بنُ أسد عامل أبي الساج بالمدينة ، أحمدَ بنَ محمّد بن يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب ، في دار مروان ، فمات في محبسه» .
ثمّ ذكر أبو الفرج الاصفهاني ثورة عليّ بن زيد ، فقال :
«فممّن خرج في هذه الايّام ، عليّ بن زيد بن الحسين بن عيسى بن زيد بن عليّ ابن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، واُمّه بنت القاسم بن عقيل بن محمّد بن عبدالله بن محمّد بن عقيل بن أبي طالب ، كان خروجه بالكوفة ، بايعه نفر من عوامها وأعرابها . ولم يكن للزيدية وأهل الفضل والوجوه فيه هوىً ، ورأيت مَنْ شاهده منها ذامّين لمذهبه .
فوجّه إليه المهتدي الشاهَ بنَ المكيال في عسكر ضخم ، وذلك قبل خروج الناجم بالبصرة ...» .
ولم يستطع هذا الثائر أن يحصل على أعوان كثيرين ، فاشتبكَ في معركة حاسمة مع جيش المهتدي ، وكان عدد أصحابه ، مائتي فارس ، في إحدى نواحي الكوفة ، إلاّ أ نّه استطاع بشجاعته وفروسيته أن يهزمَ الجيشَ العبّاسيَّ هذا .
كما وذكر أيضاً :
«ونجم الناجم بالبصرة ، فخرج إليه عليّ بن زيد ، ومعه جماعة من الطّالبيين ، منهم : محمّد بن القاسم بن حمزة بن الحسن بن عبيدالله بن العبّاس بن عليّ بن أبي طالب ، وطاهر بن أحمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب ، وكانوا مع عليّ بن زيد في معسكر الناجم ، فلمّا تبيّن عليّ بن زيد أمره ودعوته وما هو عليه ، كان يستميل قوّاده ، ويعرّفهم خبره ، ويدعوهم إلى نفسه ، فبلغ الناجم خبره ، فدعا به والاثنين الاخرين ، فضرب أعناقهم صبراً . وهذا ممّا جرى في أيّام المعتمد إلاّ أن خروجه كان في أيّام المهتدي» .
«وخرج في هذه الايّام : موسى بن بغا ، وهو مقيمٌ بهمدان ، ووجّه كيغلغ لحرب الكوكبي بقزوين ، وكانت بينهما وقعة ، قتل فيها : الحسين بن محمّد بن حمزة بن القاسم ابن الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب» .
وذكر أيضاً : «وقَتلَ أصحابُ عبدالله بن عبدالعزيز ، يحيى بنَ علي» وهو من ذرِّيّة زيد ، بقرية من قرى الرّي .
« وأسَرَ الحرثُ بنُ أسد ، محمّدَ بنَ الحسن بن محمّد بن إبراهيم بن الحسن بن زيد ابن الحسن بن عليّ ، وحمله إلى المدينة ، فتوفِّي بالصفراء ، فقطع الحرث رجليه ، وأخذ قيدين كانا فيهما ، ورمى بهما » .
« كما قَتَلَ سعيدُ بنُ الحاجب ، جعفرَ بنَ إسحاق العلوي بالبصرة ، وحمل سعيدُ بنُ الحاجب إلى العراق أيضاً ، موسى بنَ عبدالله العلوي ، وكان رجلاً صالحاً من رواة الحديث ، وحمل معه ابنه (إدريس) وابن أخيه (محمّد بن يحيى) و (أبا الطاهر أحمد بن زيد العلوي) فأنقذهم بنو فزارة من يد سعيد ، وأبى موسى أن يذهب معهم ، فعاد مع سعيد، فدسَّ إليه السّمَّ ، فقَتَلَهُ (بزبالة) . وحمل رأسَهُ إلى المهتدي في محرّم (256 هـ ) » .
« وأسَرَ عبدالرّحمان خليفة أبي الساج ، (عيسى بن إسماعيل) من ذرِّيّة جعفر بن أبي طالب ، وحُمل فمات بالكوفة » .
« وقتل عبدُالله بنُ عزيز بين الرّي وقزوين ، محمّدَ بنَ عبدالله ، من ذرِّيّة جعفر بن أبي طالب » .
«وحبَسَ عيسى بنُ محمّد المخـزومي ، عليَّ بنَ موسى العلوي بمكّة ، فمات في الحبس» .
« وحَمَلَ عبدُالله بنُ عزيز ، عاملُ طاهر ، إلى سرّ من رأى ، محمّدَ بنَ الحسين العلوي ، وعليّ بن موسى العلوي ، فحبسهما ، حتّى ماتا في الحبس» .
«وحبس محمّدُ بنُ أحمد بن عيسى بن المنصور ، عاملُ المهتدي على المدينة ، إبراهيم بن موسى العلوي ، فمات في حبسه» .
«وحبسَ أبو الساج بالمدينة ، عبدَالله بن محمّد العلوي ، فبقي في الحبس حتّى ولاية محمّد بن أحمد بن المنصور ، فتوفِّي في حبسه» (34) .
وسجّل اليعقوبي حوادثَ وثورات اُخرى ، قال فيها :
«ووثب رجل من الطالبيين يقال له إبراهيم بن محمّد ، من ولد عمر بن علي ، ويُعرَفُ بالصوفي ، بناحية صعيد مصر ، ووثب أيضاً في تلك الناحية رجل يقول إنّه عبدالله بن عبدالحميد بن عبدالله بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عمر بن الخطّاب ، فحارب السلطانَ ، وقَوِيَ أمرُ صاحب البصرة ، وصار إلى الابلة ، فأخربها ، ووقعت بين أهل البصرة العصبيةُ ، حتّى أحرقَ بعضهم منازل بعض» (35) .
ثمّ ذكر اليعقوبي تنكّر المهتدي العباسي للاتراك ، وإباحته دماءهم وأموالهم ، ونهب منازلهم ، وقتل جماعة منهم ، فشغبوا عليه ، فقتلوه ، وانتهت خلافته في رجب سنة (256 هـ ) .
«وفي عهد المعتمد العبّاسي ظهر أحمد بن محمّد العلوي ، فقتله أحمد بن طولون على باب أسوان ، وحمل رأسه إلى المعتمد .
كما قَتَلَ (صلابُ التركي) ، حمزةَ بن الحسن ، من ذرِّيّة جعفر بن أبي طالب ، قتله صبراً ، ومثّل به ، بعد أن أسّره في معركة وقعت بين صلاب وبين هوذان الدّيلمي .
كما قُتِلَ حَمزةُ بنُ عيسى العلوي ، ومحمّدُ بنُ الحسن ، وأخاه إبراهيم ، والحسنُ بنُ محمّد العلوي ، وإسماعيلُ بنُ عبدالله ، من ذرِّيّة جعفر بن أبي طالب ، في المعركة الّتي وقعت بين الحسن ، ويعقوب بن اللّيث الصفّار بطبرستان .
وحُبِسَ محمّدُ بنُ الحسين العلوي ، أيّام المعتمد ، فمات في السجن ، بسرّ من رأى .
كما توفِّي في السجن موسى بن موسى العلوي ، بسرّ من رأى في أيّام المعتمد ، الّذي كان قد حُمِلَ من مصر أيّام المعتز ، وحُبس بسرّ من رأى ، وبقي في السجن حتّى مات في ذلك الوقت .
وحَبَسَ سعيدُ الحاجب ، محمّدَ بنَ أحمد بن عيسى العلوي وولديه (أحمد وعليّاً) ، فتوفِّي محمّد وابنه أحمد في السجن ، واُطلِقَ علي (ابن محمّد) (36) .
وهكذا تصوِّر لنا هذه الوثائق والحوادثُ الظرفَ السياسي المشحونَ بالارهاب والقتل والملاحقة لال أبي طالب .
وواضح أنّ الخلفاء العبّاسيين كانوا قد عهدوا الامامة في ذرِّيّة الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، وعاصروا الامام جعفر بن محمّد الصادق (ع) من بداية تسلّمهم السلطة سنة (132 هـ ) .
وبدأ صراعهم مع أئمّة أهل البيت (ع) ممتدّاً ، الواحد تلو الاخر . فقد اشتبكوا في صراع مع موسى بن جعفر (ع) ، وسجنوه حتّى مات في السجن ، وقد فَتِرَ هذا الصراع في عهد المأمون العبّاسي في حياة الامام عليّ بن موسى الرّضا وولده محمّد ابن عليّ الجواد (ع) ، ثمّ استؤنف الصراع ضارياً وإرهابيّاً ضدّ الامام عليّ بن محمّد الهادي (ع) ، الّذي تحمّل أعباء الامامة بعد وفاة أبيه الجواد (ع) مباشرة ، وامتدّت هذه المواجهة الحادّة والعنيفة من قِبَل المعتز والمهتدي والمعتمد مع الامام الحسن بن عليّ العسكري (ع) والد الامام محمّد (المهدي) .
ويحدِّثنا الشيخ المفيد (محمّد بن محمّد بن النّعمان العكبري البغدادي) ، أنّ الخوف والارهاب والملاحقة لال علي (ع) ، ومعرفة الخليفة العبّاسي بأنّ الامامة في ذرِّيّة الحسن العسكري (ع) ، وإصراره على استئصال امتداد الامامة ، هو الّذي دعا الامام العسكري (ع) إلى التكتّم على ولده ، وعدم الاعلان عن ولادته ، قال :
« وخلّف ابنه المنتظر لدولة الحقّ ، وكان قد أخفى مولِدَهُ ، وسَتَرَ أمرَهُ ، لصعوبة الوقت ، وشدّة طلب سلطان الزمان له واجتهاده في البحث عن أمره ، ولِما شاع من مذهب الشيعة الامامية فيه ، وعرف من انتظارهم له ، فلم يُظهر ْولدَهُ (ع) في حياته ، ولا عرّفه الجمهور بعد وفاته ، وتولّى جعفرُ بن علي ، أخو أبي محمّد (ع) أخذَ تَرِكَتِهِ ، وسعى في حبسِ جواري أبي محمّد (ع) واعتقالِ حلائِلِهِ، وشَنّعَ على أصحابه بانتظارهم وَلَدَهُ ، وقَطْعِهِم بوجوده ، والقولِ بإمامَتِهِ ، وأغرى بالقوم حتّى أخافهم وشرّدهم ، وجرى على مُخَلفي أبي محمّد (ع) بسبب ذلك كلُّ عظيمة من اعتقال وحبس وتهديد وتصغير واستخفاف وذلّ ، ولم يظهر السلطان منهم بطائل ، وحازَ جعفرُ ظاهراً تركة أبي محمّد (ع) ، واجتهد في القيام عندَ الشيعة مقامَهُ ، ولم يَقبلْ أحدٌ منهم ذلك ، ولا اعتقد فيه » (37) .
وهكذا تحدّثنا هذه الوثيقة التاريخيّة الصادرة عن الشيخ المفيد الّذي عاش ما بين سنة(338 ـ 413هـ)،القريب من عهد السفراء ـ الغيبة الصغرى ـ الّتي انتهت سنة (329 هـ )