الموقف بعد وفاة الامام الحسن العسكري (عليه السلام)
وكما هو معلوم فإنّ وفاة الامام الحسن بن عليّ العسكري (ع) كانت سنة (260 هـ )، وقد أحدثت وفاتُهُ هزّةً عنيفةً في كيان شيعته وأتباعه من بعده، فقد اضطرب الموقف، وامتلكت الحيرة الكثيرين منهم ، وبدأ التساؤلُ ، هل للامام الحسن العسكري (ع) ولدٌ يخلفُهُ في الامامة ؟ أم أنّ الامامة انقطعتْ مِن بعده ، وليس له ولد ؟ ، فكانَتِ الاجوبةُ شتّى ، والفرقُ متعدِّدة .
وتحدّث الصدوق بما يوضِّح تلك الحقيقة في كتابه (إكمال الدين) عن سلسلة من الرواة عن أبي حاتم ، قال :
« سمعت أبا محمّد الحسن بن عليّ (ع) يقول : في سنة مائتين وستّين تفرّق شيعتي . ففيها قُبِضَ أبو محمّد (ع) وتفرّقت شيعتُهُ وأنصارُهُ، فمنهم مَنِ انتمى إلى جعفر ، ومنهم مَن تاهَ وشَكَّ ، ومنهم مَن وَقَفَ على تحيّرِهِ ، ومنهم مَن ثبت على دينه بتوفيق الله عزّ وجلّ » (38) .
وفيما يأتي نورد جانباً من حوادث تلك المرحلة ، والصراع الفكري الّذي جرى فيها بين الشيعة والاتباع ، وما استقرّ عليه الرأي عندهم .
ولاستيضاح تلك الصورة التاريخيّة ، فلنقرأ ما كتبه أبو محمّد الحسن بن موسى النوبختي ، من أعلام القرن الثالث الهجري ، ومن علماء الشيعة البارزين في تلك الفترة ، وممّن عاش في تلك الحقبة التاريخيّة . كتب عن الاراء والفرق الّتي نشأت بعد وفاة الامام الحسن بن عليّ العسكري (ع) ما نصّه :
« وولد الحسن بن عليّ (ع) في شهر ربيع الاخر ، سنة اثنتين وثلاثين ومائتين ، وتوفِّي (بسرّ من رأى) يوم الجمعة لثمانِ ليال خَلَوْنَ من شهر ربيع الاوّل سنة ستِّين ومائتين ، ودُفِنَ في داره في البيت الّذي دُفِنَ فيه أبوه ، وهو ابن ثمان وعشرين سنة ، وصلّى عليه أبو عيسى بن المتوكِّل ، وكانت إمامته خمس سنين وثمانية أشهر وخمسة أيّام ، وتوفِّي ولم يُرَ له أثرٌ ، ولم يُعرَفْ له ولدٌ ظاهرٌ ، فاقتسمَ ما ظهرَ مِن ميراثِهِ أخوه جعفرٌ واُمّه ، وهي اُمّ ولد ، يقال لها عسفان ، ثمّ سمّـاها أبو الحسن حديثاً ، فافترق أصحابه بعده أربع عشرة فرقة .
ففرقة منها قالت : إنّ (الحسن بن علي) حيٌّ لم يَمُتْ ، وإنّما غابَ ، وهو القائمُ ، ولا يجوز أن يموتَ ولا ولدَ له ظاهر ، لانّ الارض لا تخلو من إمام .
وقالت فرقة اُخرى : انّ الحسن بن عليّ مات ، وعاش بعد موته ، وهو القائم المهدي .
وقالت فرقة : بل ولد للحسن ولد بعده بثمانية أشهر ، وأنّ الّذين ادعوا له ولداً في حياته ، كاذبون مُبطلون في دعواهم ، لانّ ذلك لو كان لم يَخفَ خبرُهُ ولكنّه مضى ولم يُعرف له ولد .
وقالت فرقة : إنّ الحسن بن عليّ قد صحّت وفاة أبيه وجدّه وسائر آبائه (ع) ، فكما صحّت وفاتُهُ بالخبر الّذي لا يكذب مثله فكذلك صحّ أ نّه لا إمامَ بعد الحسن وذلك جائز في العقول والتعارف .
وقالت فرقة : إنّ الحسنَ بن عليّ كان إماماً وقد توفِّي ، وأنّ الارضَ لا تخلو من حجّة ، ونتوقف ، ولا نقدم على شيء حتّى يَصُحَّ لنا الامرُ ويتبيّنُ .
وقالت فرقة ، وهم الامامية : ليس القولُ كما قال هؤلاء كلُّهُم ، بل لله عزّ وجلّ في الارض حجّةٌ مِن ولد الحسن بن علي ، وأمرُ الله بالغٌ ، وهو وصيٌّ لابيه على المنهاج الاوّل والسنن الماضية .
فنحن مستسلمون بالماضي وإمامتِهِ ، مُقرّونَ بوفاتِهِ ، مُعترفونَ بأنَّ له خلفاً قائماً مِن صُلبِهِ ، وأنّ خلفَهُ هو الامامُ من بعده حتّى يظهرَ ويُعلِنَ أمرَهُ ، إذ هو (ع) مغمود خائفٌ مستورٌ بستر الله تعالى »(39) .
وفرقة قالت : «إنّ الامام بعد الحسن ابنه محمّد ، وهو المنتظر ، غير أ نّه قد مات ، وسيحيا ويقومُ بالسيف ، فيملاُ الارضَ قِسطاً وعدلاً ، كما مُلِئَتْ ظلماً وجوراً»(40) .
وهكذا توضِّح لنا هذه القراءة لتلك الفترة،اضطرابَ الاراء،وتعدُّدَ الفرق في صفوف الشيعة في تحديد وتشخيص شخصية الامام المهدي(ع)بسبب الظروف السياسية والتعقيدات الصعبة الّتي كانوا يعيشونها آنذاك.واستقرّ الامر على ما قالت به الشيعة الامامية وهو أنّ الامام المهدي هو:(محمّد بن الحسن العسكري)الّذي وُلِدَ بسرّ من رأى،قبيل وفاة أبيه بخمس سنين .
وشاء الله أن يؤجِّل ظهوره ، ليملا الارض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً .