اللهم صل ِعلى محمد وآل محمد
وعجل فرجه ياكريم
حلف سبحانه تبارك و تعالى بأُمور أربعة: الشفق ، والليل، وما وسق، و القمر، فقال: (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ *وَاللَّيلِ وَما وَسَقَ * وَالقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ * فَما لَهُمْ لا يُوَْمِنُونَ *وَإِذا قُرِىََ عَلَيْهِمُ الْقُرآنَ لا يَسْجُدُون) .
تفسير الآيات
الشفق: هو الحمرة بين المغرب والعشاء الآخرة، والمراد منه في الآية الحمرة التي تبقى عند المغرب في الاَُفق، وقيل: البياض فيه.
والوسق: جمع المتفرق، يقال: وسقت الشيء إذا جمعته، ويسمي القدر المعلوم من الحمل كحمل البعير وسقاً، فيكون المعنى والليل و ما جمع وضمّ ممّا كان منتشراً بالنهار، وذلك انّ الليل إذا أقبل آوى كلّ شيء إلى مأواه،وربما يقال: بمعنى «ما ساق» لاَنّ ظلمة الليل تسوق كلّ شيء إلى مسكنه.
واتسق: من الاتساق بمعنى الاجتماع والتكامل فيكون المراد امتلاء القمر.
والطبق: الحال، والمراد لتركبنّ حالاً بعد حال، ومنزلاً بعد منزل،وأمراً بعد أمر.
وحاصل معنى الآيات:
لا أُقسم بالشفق،وقد ذكرنا حديث «لا» و انّ معنى الجملة هو الحلف ومعناه أقسم بالحمرة التي تظهر في الاَُفق الغربي عند بداية الليل وما يظهر بعد الحمرة من بياض والمعروف في الشفق في لسان الاَُدباء هو الحمرة ولذلك يشبهون دماء الشهداء بالشفق غير انّه ربما يستعمل في البياض الطارىَ على الحمرة الذي هو آية ضعف الشفق ونهايته.
وأقسم بالليل لما فيه من آثار و أسرار عظيمة، فلولا الليل لما كان هناك حياة كالضياء، فكلّ من الليل والنهار دعامتا الحياة، قال سبحانه: (قُلْأَرَأَيْتُمْ إِنْ جعلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمداً إِلى يَوْمِ القِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُون * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرمداً إِلى يَومِ القِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيرُ اللّهِ يَأتِيكُمْ بِلَيلٍ تَسْكُنُون فيهِ أَفَلا تبصِرُون) .
ثمّ إنّه سبحانه أشار إلى ما يترتب على الليل والنهار من البركات، فقال: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُاللَّيلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) ز، فخلق النهار لطلب الرزق والمعاش، كم البدن بالنوم فيه والسكن إليه وسيوافيك التفصيل في الفصول القادمة إن شاء اللّه.
وأقسم بما وسق، أي بما جمع الليل، ولعلّه إشارة إلى عودة الاِنسان والحيوانات والطيور إلى أوكارها عند حلول الليل، فيكون الليل سكناً عاماً للكائنات الحيّة.
حلف بالقمر عند اتساقه واكتماله في الليالي الاَربع لما فيه من روعة وجمال، ولذلك يُشبَّه الجميل بالقمر، مضافاً إلى نوره الهادىَ الرقيق الذي يغطّي سطح الاَرض. وهو من الرقة واللطافة بمكان لا يكسر ظلمة الليل وفي الوقت نفسه ينير الطرق و الصحاري.
فهذه أقسام أربعة بينها ترتب خاص، فانّالشفق أوّل الليل يطلع بعده القمر في حالة البدر، فهذه الموضوعات الاَربع أُمور كونية يقع كلّ بعد الآخر حاكية عن عظمة الخالق.
وأمّا المقسم عليه فهو قوله سبحانه: (لَتَرْكَبُنَّ طَبقاً عَنْ طَبَق) وهي إشارة إلى المراحل التي يمرّ بها الاِنسان في حياته وأوضحها هي الحياة الدنيوية ثمّ الموت ثمّالحياة البرزخية ثمّالانتقال إلى الآخرة ثمّ الحياة الاَُخروية ثمّ الحساب والجزاء.
وفي هذه الآية إلماع إلى ما تقدّم في الآية السادسة من هذه السورة، أعني قوله سبحانه:(يا أَيُّهَا الاِِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) .
والكدح بمعنى السعي والعناء يتضمن معنى السير.
فالآية تشير إلى أنّ الحياة البشرية تتزامن مع التعب والعناء، ولكن الغاية منها هو لقاء اللّه سبحانه، وكأنّ هذا الكدح باق إلى حصول الغاية ، أي لقاء جزائه من ثواب وعقاب أو لقاء اللّه بالشهود.
وأمّا وجه الصلة وهو بيان انّ الاَشواط التي يمرّ بها الاِنسان أُمور مترتبة متعاقبة كما هو الحال في المقسم به أعني الشفق الذي يعقبه الليل الدامس ويليه ظهور القمر.
توضيحه: انّ القرآن يحدّث عن أُمور متتابعة الوقوع وبذات تسلسل خاص فعندما تغيب الشمس يظهر الشفق معلناً عن بداية حلول الليل الذي تتجه الكائنات الحية إلى بيوتها وأوكارها ثمّ يخرج القمر بدراً تاماً، فإذا كان المقسم به ذات أُمور متسلسلة يأتي كلّ بعد الآخر فالطبقات التي يركبها الاِنسان مثل المقسم به مترتبة متتالية فيبدأ بالدنيا ثمّ إلى عالم البرزخ ومنه إلى يوم القيامة ومنه إلى يوم الحساب.
وبذلك يعلم وجه استعجابه سبحانه عن عدم إيمانهم، حيث قال: (فَما لَهُمْ لا يُوَْمِنُون) فانّ هذا النظام الرائع في الكون وحياة الاِنسان من صباه إلى شبابه ومن ثمّ إلى هرمه لدليل واضح على أنّ عالم الخلقة يدبر تحت نظر خالق مدبر عارف بخصوصيات الكون.
يقول أحد علماء الطبيعة في هذا الصدد: إنّ جميع ما في الكون يشهد على وجود اللّه سبحانه ويدل على قدرته وعظمته، وعندما نقوم ـ نحن العلماء ـ بتحليل ظواهر هذا الكون ودراستها، حتى باستخدام الطريقة الاستدلالية، فانّنا لا نفعل أكثر من ملاحظة آثار أيادي اللّه وعظمته. ذلك هو اللّه الذي لا نستطيع أن نصل إليه بالوسائل العلمية المادية وحدها، ولكننا نرى آياته في أنفسنا وفي كلّذرة من ذرات هذا الوجود.