" قبورنا معتمة على الرابية و الليل يتساقط في الوادي "
للراحل محمد الماغوط
أفقت مثقل الرأس...
كان نومي متقطعا,لم أقو على احتمال حرارة امتصت كل شئ ليعسر تنفسي وأغرق في عرق بلل ملابسي الداخلية...
غادرت ضيق الغرفة عبر ممر ضيق هو الأخر.اخترت المكان القصي من الشرفة التي لم تتسع لأكثر من ثلاث طاولات متقاربة و ست كراسي...كانت الشرفة الوحيدة بهذا النزل اليتيم بهذه التي لاهي بالمدينة ولا هي بالقرية...بيوت تكاد تشكل كتلة طينية واحدة ذات شبه مريع بتلك التي ,في صغرنا,شكلناها من وحل البرك...مع ما شكلنا من أكواب وأباريق وحتى بعض النوق النائخة دوما : مثلث عليه رأس صغير وذيل على الوجه المقابل...
جلست أرقب تلك الربوة التي نسجوا حولها ما نسجوا...لكن رؤوس النخل اللامعة مع كل نسيم عليل,كانت كما فرشات تنمق إطار لوحة زاهية,تشدني...
وصلني الشاي الذي طلبت,ووصل معه أيضا زوج بهيج ملأ الشرفة أريجا...
امرأة تفور نعومة وحيوية ,شعرها الأشقر الناعم يلمع كما سعف النخيل هناك على السفح,ضامرة ومكتنزة...لباسها الشفاف لم يحجب أشعة الشمس من اختراقه لتبدو عارية تماما...ظهرها بيضة حجل طرية...
دلفا بهدوء كالنوم...أو كراقصين على الجليد,مسكها من خصرها كمن يمسك شيئا رخوا ,إن هو احكم الإمساك أتلفه...
نسيت الربوة التي تتلفع بممر اصفر, يوصل إلى جدار عال, توسطته غرفة علاها عمود حديدي شد إلى الأرض بخيوط مائلة كثيرة ,منته بمصباح يزداد احمرارا كلما دعتنا الشمس للمغيب...
التفتا متداركين" هل سيحجبان عني المغيب إن هما قعدا قبالتي ؟" هذا ما فهمته على الأقل من التفاتتهما...رفعت يسراي التى كانت تمسك كتيبا احتجز سبابتى كعلامة كي لاتضيع الصفحة, الصفحة التي لن أقلبها على ما يبدو..." أن لا بأس تفضلا..." يمناي استلذت دفء الشاي,شاي الجنوب...
جلسا, حجبا عني الربوة قليلا,وضع كفه على رمانة كتفها العارية وضمها برفق...امتصا عصير البرتقال المزين بقطع ثلجية مكعبة و تبادلا امتصاص حرارة بعضهما بين الفينة والأخرى بجنون هادئ...
فجأة تكسر الصمت,قبل أن يظهروا,سبقتهم أصواتهم التي خللخت الهدوء...ظننت أن الشرفة ستضيق بهذا الوفد القادم,الصاخب...فوجئت لأن عددهم لم يتجاوز ثلاثة أفراد...
سحب أحدهم الكرسي الذي بجواري دون استئذان,أحدث احتكاكا تصطك له الأسنان...التفت السائحان بحذر ,رفع كفه عن كتفها واعتدلا قليلا في جلستهما...
...وغابت الشمس...
الحركة التي بدأت تدب,من والى رأس الربوة,كشفتها الأضواء التي تختفي بالسرعة التي تظهر بها,تذكرت وصفا سمعته من رجل هرم " بالليل يابنى تصحو الربوة وتشتغل كالنمل..."
الشيخ الذي أضاء نور الشرفة وجهه, بدت ملامحه صلبة أقرب إلى العداء...على يمينه جلس الشاب الذي جذب الكرسي بعنف,شديد السمرة,عليه أثر هذه البيوت الطينية العارية كالحزن.يتأبط ملفا تطل منه أوراق غير مرتبة وقد تآكلت أطرافها...
يتكلم بصوت مرتفع...أمامه جلس الرجل الثالث :أنيق المظهر,ذا سمرة خفيفة,هو الأخر ,كلما تدخل علا صوته...
الربوة مضاءة قمتها بشكل فاضح,بدت موحشة, تبعث على التوجس أكثر...لم تنقطع الحركة بل كادت تصير منتظمة...
سرى نسيم يغري بالسهر...غطت السائحة كتفيها وانسحبا بمثل الهدوء الذي ولجا به الشرفة...
صوت الشيخ خافت ودافئ :" بلغني أنه لم يبق سوى الخاتم الشريف..." وانسحب الرجال دون ضجيج...
بقيت وحدي أرقب الربوة المعتمة التي علمت فيما بعد أن رحمها منجم لاستخراج بقايا أرواح...