المنهج التربوي المشترك ضمان لبناء شخصية الطفل المتوازنة
للمنهج المتبنى في الحياة تأثير على السلوك، فهو الذي يجعل الإيمان به حركة سلوكية في الواقع، ويحوّل هذه الحركة الى عادة ثابتة متجذرة داخل النفس وداخل الأسرة، فتبقى فيه الحركة السلوكية المتفاعلة مع ما يحدّد لها من تعاليم وبرامج.
ووحدة المنهج تؤدي الى وحدة السلوك والخلق، فالمنهج الواحد هو المعيار والميزان
الذي يوزن فيه السلوك من حيث بعده وقربه من التعاليم والبرامج الموضوعة، فيجب
على الوالدين الاتفاق على منهج واحد مشترك يحدّد لهما أسلوب وطريقة التعامل مع
أفراد الأسرة من أجل تربيتهم وإعدادهم ليكونوا عناصر صالحة في الاسرة والمجتمع،
حيث أن وحدة المنهج التربوي تؤدي الى وضوح الضوابط والقواعد السلوكية لدى
الوالدين ولدى الاطفال فتكون حاكمة على سلوكهم وممارساتهم وبالتالي تؤدي الى ثباتهم واستقرارهم النفسي والعاطفي والسلوكي، والعكس صحيح فاضطراب المنهج والتضارب في التعامل يؤدي الى الاضطراب في جميع مقومات الشخصية، فينبغي الاتفاق على أسلوب وطريقة واحدة في التعامل، وفي الموقف من سلوك الطفل من حيث التشجيع والتوبيخ، ومن حيث الثواب والعقاب.
فالسلوك الذي يحتاج الى تشجيع ينبغي أن يشجّع الطفل عليه من قبل الطرفين، والسلوك
الذي يحتاج الى توبيخ ينبغي أن يوبخ عليه من قبل الطرفين، وكذلك الحال في الثواب
والعقاب، وبهذه الوحدة المنهجية يدرك الطفل الصحة والخطأ والاستقامة والانحراف،
أمّا في حال التضارب في المنهج فان الطفل يضطرب نفسياً وعاطفياً وسلوكياً لأنّه لا
يستطيع التمييز بين الصواب والخطأ وبين الاستقامة والانحراف، فيحاول إرضاء والده
تارة ووالدته تارة أخرى بإتباع سلوك متناقض، فلو امتدحه الوالد على سلوك معين،
وذمته الوالدة على نفس السلوك، فانه سيضطرب ولا يقوى على معرفة السلوك الذي
ينبغي أن يتبعه، وعلى سبيل المثال لو أراد الطفل لعبة معينة فلا ينبغي لأحد الوالدين
أن يسمح له ويمنعه الآخر منها، ولو أراد الطفل أن يلعب مثلاً في التراب، فلا ينبغي
التضارب في ذلك بالسماح والمنع فقد يرى الوالد ان اللعب بالتراب مفيد للطفل اعتماداً
على رواية شريفة وهي قول رسول الله (ص):
«التراب ربيع الصبيان» واعتماداً على رأي بعض علماء النفس والتربية، بينما ترى
الوالدة بأنّ اللعب بالتراب عمل غير حضاري أو يؤدي الى مرض الطفل أو الى قذارة
ثيابه، أو ترى ضعف سند الرواية، ففي هذه الحالة سيضطرب الطفل ولا يدري ماذا
يعمل، وكذا الحال في النظر الى جهاز التلفاز، أو قراءة مجلة معينة، أو اختيار وقت
اللعب، أو الموقف من الشجار بين الأطفال فقد يرى الوالد عدم التدخل في شؤون هذا
الشجار ليتعلم الأطفال دروساً من الشجار في الوصول الى علاج له، بينما ترى الوالدة
وجوب التدخل لإنهاء الشجار، وقد يرى الوالد إنّ التعرّي أمام الآخرين ظاهرة طبيعية
بالنسبة لعمر الطفل، بينما ترى الوالدة ان التعرّي ظاهرة غير محتشمة ومخالفة للعفّة،
وقد يرى الوالد أن قيام الطفل بتحطيم آلة معينة أو تمزيق بعض
الأوراق المهمّة هو عمل عدواني ينبغي معاقبته عليه، بينما ترى الوالدة ان هذا العمل
هو جزء من شعور الطفل بالإبداع والابتكار حيث انه جعل الآلة الواحدة أجزاءً متعددة،
وجعل الورقة الواحدة أوراق عديدة بتمزيقها الى عدة أقسام وأجزاء.
فهذا التضارب يجعل الطفل مضطرباً لا يميّز بين الخطأ والصواب وبين الانحراف
والاستقامة، ويضطرب في معرفة ما يرضي هذا ويرضي ذاك، وهو في هذه الحالة لا
يستطيع معرفة الميزان والمعيار الثابت الذي يوزن به سلوكه في جميع المجالات، فيتّبع
سلوكين في آن واحد أحدهما أمام والده والآخر أمام والدته، وهو نوع من النفاق
السلوكي المؤدي الى اضطرابه في فكره وعاطفته وسلوكه.
ومن أخطر المظاهر هو الخلافات بين الوالدين حول طريقة التربية أمام مرأى ومسمع
الطفل، فقد يؤنب أحدهما الآخر على موقفه من الطفل، فمثلاً يقوم الوالد بتوبيخ طفله
أو معاقبته، فتعترض الوالدة على ذلك، وتصرّح بأن الطفل لا يستحق التوبيخ والعقوبة،
فيقابلها الوالد بتخطئة رأيها، وتتشنج بينهما العلاقة، وقد يصحبها صراع صاخب في
الألسن والأيدي، وخصوصاً من قبل الوالد الذي يرى انه القيّم والمسؤول، ففي هذه
الحالة يفقد الطفل الاستقرار والطمأنينة والأمان، لاختلاف الوالدين حول سلوك واحد،
وللصراع الصاخب بينهما.
فينبغي أن يتم التفاهم والانسجام بين الوالدين في طريقة التعامل مع الطفل، وفي التعامل فيما بينهم، وينبغي أن يناقش الوالدان الموقف بعيداً عن مرأى ومسمع الطفل، فيبيّن أحدهما للآخر خطأ موقفه وسلوكه، فلو أخطأ الوالد أو أخطأت الوالدة فينبغي الصبر وعدم الرد الى حين غياب الطفل فتناقش الأمور بغيابه ليتم الاتفاق على موقف واحد من جديد.
وفي جميع الظروف والأحوال ينبغي الرجوع الى مفاهيم وقيم التربية التي أرسى أركانها رسول الله (ص) وأهل بيته (عليهم السلام) لأنها خير ميزان ومعيار لتقويم السلوك،
إضافة الى الاعتماد على آراء العلماء والفقهاء وأصحاب التجارب في مجال التربية.
فقد وضع المنهج الاسلامي قواعد كلية في العلاقات والأدوار والسلوك، اما القواعد
الجزئية أو الفرعية فانها تتغيّر بتغيّر الظروف والعصور فيرجع فيها الى أصحاب
الاختصاص وأصحاب والتجارب، ومنهج أهل البيت عليهم السلام من أفضل المناهج
التي يجب تبنيها في الأسرة، فهو منهج ربّاني موضوع من قبل الله تعالى علّمه لرسول
الله(ص) وعلّمه الرسول الى أمير المؤمنين علي عليه السلام، وعلّمه بدوره الى الأئمة
المعصومين من ولده، وهو منهج منسجم مع الفطرة الانسانية فلا لبس فيه ولا غموض
ولا تعقيد ولا تكليف بما لا يطاق، فجميع الارشادات والتعاليم تستمد قوتها من الله تعالى،
فلا مجال للنقاش في خطئه أو محدوديته، وهو الكفيل بتحقيق الاستقرار والاطمئنان داخل الأسرة ومن ثم المجتمع الكبير.
سعيد العذاري