صلاة الكسالى وتضييع الصلاة
علي محمد كوراني
صلاة الكسالى هي الصلاة التي تفقد حرارتها العاطفية والفكرية وتتحول الى عمل مغلق بعد أن كانت حقلا خصبا جميلا .
والكسل الذي يسبب فقدان الصلاة هو حالة مرضية تعرض للنفس , وتنشأ تارة من الجسد , وتارة من ارهاق النفس , وثالثة من انحرافها .
فأما كل الجسد فهو خلل في وظائفه الفسيولوجية الواسعة لايلبث أن ينعكس على النفس بقانون الترابط الصميم بينها وبين الجسد فيحدث أن تصاب النفس بالخمول وتتضاءل قدراتها على العمل والاستيعاب والتفاعل .. ثم تزول إصابة النفس بهذه الحالة بزوال إصابة الجسد .
وليس هذا الكسل الناتج عن الجسد مذموماً في الشريعة الإسلامية مادام لم يحدث بسبب الإنسان . قال الله عز وجل " لايكلف الله نفساً إلا وسعها : لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " 286 – البقرة , وقال عز وجل " لايكلف الله نفساً إلا ما آتاها " 7 – الطلاق , وفي الحديث الشريف " كل ما غلب عليه الله عز وجل فهو أولى بالعذر فيه " .
ونصوص أخرى تؤكد هذا المعنى ومن ورائها حكم العقل بذلك وأما كسل الإرهاق النفسي فينتج عن الإكثار من بذل الجهد دون اعطاء النفس قسطها من الراحة فيحدث أن تصاب بإعياء وكلل عن الاستيعاب والتفاعل .
وهذا الكسل ليس مذموماً في الشريعة الإسلامية أيضاً ما دام الجهد الذي سببه مشروعاً فقد ورد في الحديث الشريف أن هذه الأنفس تمل كما تمل الأبدان وأن لها إقبالا وإدباراً , وأن القلب تمر عليه الساعة من الليل والنهار ما فيه إيمان ولا كفر شبه المضغة وشبه الثوب الخلق ( الكافي ج 2 ص – 420 – 421 ) ونصوص أخرى تدل على أن حالة الإعياء والفتور هذه عارض طبيعي في حياة النفس البشرية لاتلبث أن تزول فتعود النفس الى نشاطها .
وأما كسل الإنحراف فهو خمول يتخذ صفة النفرة وعدم الإنسجام مع نشاطات نافعة , وقد يكون جزئياَ فينحصر بالضجر من أعمال معينة كالصلاة وتلاوة القرآن مثلا , وقد يكون كلياً فيشمل كافة النشاطات النافعة حيث تصاب النفس بالضجر من جميعها وتتركز رغباتها على نشاطات ضارة أو تافهة .
وغالباً ما يكون كسل الإنحراف هذا مستمراً دائماً , عكس كسل الإرهاق الذي يكون موقوتاً وموجوزاً في الأكثر .
والإنحراف الذي يثمر هذا الكسل يكمن في عمق شخصية الإنسان : في نوعية مواجهته للحياة وأشيائها .. فان مواجهة الناس للحياة تكون تارة بروح جادة ومسؤولة , وتارة بروح انتهازية غير مسؤولة , وثالثة بقدر ناقص من الجد والمسؤولية .
أما الذي يواجه الحياة بروح جادة مسؤولة – روح الإيمان بالحياة والنفس والسلوك وصغيرالأموروكبيرها , وروح المسؤولية في ذلك أمام الخالق عز وجل – فلا يمكن إلا أن يكون حيوياً متفاعلا مع الحياة في كل جانب من جوانب سلوكه , لأنه اما أن لايؤمن بهذا الجانب فيرفضه بحيوية وأما يؤمن به فيؤديه بحيوية .
وأما الذي يواجه الحياة بروح غير مسؤولة كالروح الإنتهازية والشهوية – روح النفاق – فإن هذه الروح بطبيعتها الوصولية ستفرض عليه الممالأة والقيام بأعمال لايقتنع بها ولايؤديها إلا أداء شكلياً لغرض الوصول الى مآربه .. ولهذا يعجز المنافق مهما أعمل قدرته في التمثيل والتضليل أن يعطي أعماله الخيرة روح الخير كالذي يؤمن بها ويتفاعل معها , فيحدث أن تنعكس روحه المنافقة على القيم التي يتحدث عنها والصلاة التي يصليها والمال الذي ينفقه , وأحياناً يتضح خموله الروحي ونفاقه فتراه يشعر بعمل الخير ضريبة مكروهة يدفع اليها نفسه دفعاً .
يقول الله عز وجل عن المنافقين " فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون , الذين هم يراؤون و يمنعون الماعون " 4-7 الماعون .
يقول الله عز وجل " قل انفقوا طوعاً أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين . وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله ورسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون . فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم انما يريد الله ليعذبهم فيها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون . ويحلفون بالله أنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون " 53 – 56 التوبة .
ويقول عز وجل " إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا الى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا . مذبذبين بين ذلك لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء . ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا " 142 – 143 النساء .
وهكذا فإن روح النفاق التي يحملها المنافق بين جنبيه توجب فيه كسلا نفسيا عن فعل الخير وفقدانا للجدية والحيوية والتفاعل مع صلاته وغيرها من النشاطات التي يمارسها لأغراض وصولية بينما تراه يمارس نشاطاته المنحرفة بروح عفريت ..
وأما الذي يواجه الحياة لا بروح النفاق ولكن بقدر ناقص من الجد والمسؤولية فهو المؤمن الذي لم تكتمل فيه روح الإيمان ولم يستوف دفعة الحيوية والتفاعل مع السلوك الذي يؤمن به . وهذه الروح الناقصة تسبب فيه كسلاً نفسيا يختلف في قدره عن كسل النفاق ولكنه يشترك معه في أنه كسل ناتج عن انحراف نفسي في مواجهة الحياة .
ودرجات هذا الكسل تتفاوت .. فربما كان كسلا مطبقا على جميع النشاط الخير حتى يكون خمولا وجموداً في القلب . وربما كان كسلا عن اتخاذ المواقف الحاسمة في الحياة , أو كسلا عن محبة الناس , أو عن تلاوة القرآن والصلاة .. في حالات معينة أو دائمة .
( ويتسع هذا الكسل في الناس حتى ليكون لكل مؤمن منه نصيب قل أم كثر , ولا يسلم منه كليا إلا من بذل مع نفسه جهداَ تربويا كبيراً فعصمه الله عز وجل . )
وعلى المسلم الذي يعرض له الكسل في صلاته أن يبحث عن سبب هذا الكسل :
فإن كان ناتجا عن عارض صحي فدواؤه المعالجة الصحية , وكل ما غلب عليه الله عز وجل فهو أولى بالعذر فيه على حد تعبير الإمام الصادق عليه السلام .
وإن كان ناتجاً عن تقصير في الجد والتفاعل مع السلوك فلا بد للمسلم أن يخرج بصلاته من صلاة الكسالى الى صلاة الوعي والنشاط فيقوم أولا بتفهم الصلاة ومدى ضرورتها الذاتية والموضوعية لوجوده ويحس بها مسؤولية محببة من أجل مصلحته لا من أجل الله الغني تبارك وتعالى , ويقوم ثانيا بتغيير طريقة أدائه للصلاة فلا يكون همه حينما يبدأ بها أن ينتهي منها , ولا يعتبرها عملا مقفلا يقوم به دون تفهم , بل حقلا جميلا يعيش فيه بروحه وفكره وجسده ويجني من عطائه .. ليحس أحدنا على الأقل أن الله عز وجل ينظر اليه في صلاته وأن الملائكة يؤمنون على دعائه ويستغفرون له .
وحينما يبدأ المسلم في التغلب على هذا الكسل فسيجد الله سبحانه في عونه وسيجد صلاته .
أما كسل النفاق فلا شفاء منه إلا بالشفاء من مرض النفاق , باستئصال الروح المريضة واقتلاعها من أعماق الشخصية , ومواجهة الحياة بروح مؤمنة مسؤولة .
وتضييع الصلاة مسألة متصلة بالكسل ... فما صلاة الكسالى إلا لونا من ألوان إضاعة الصلاة . ومن ملاحظة نصوص القرآن الكريم والسنة الكريمة في إضاعة الصلاة نجد أنها تقصد بالإضاعة معنيين : الاستخفاف بالصلاة , وترك الصلاة كلية .
أما الاستخفاف بها فهو يشمل : عدم تفهم الصلاة في أحكامها وشروطها الشرعية , وتأخيرها عن وقتها , وتركها جزئيا , وعدم التأني في أدائها , وعدم التوجه بالقلب والتأثر بها حال أدائها واليك بعض النصوص التي تخص هذه الألوان من التضييع :
عن النبي ( ص ) قال :" ليس مني من استخف بصلاته . لا يرد الحوض عليّ لا والله " .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال لجماعة " والله إنه ليأتي على الرجل خمسون سنة وما قبل الله منه صلاة واحدة . فأي شيء أشد من هذا ؟! والله انكم لتعرفون من جيرانكم وأصحابكم من لو كان يصلي لبعضكم ما قبلها منه لاستخفافه بها .. ان الله لايقبل إلا الحسن , فكيف يقبل ما يستخف به ؟ " الوسائل ج 3 ص 15 – 16.
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال " بينا رسول الله ( ص ) جالس في المسجد فدخل رجل فقام يصلي فلم يتم ركوعه ولاسجوده , فقال ( ص ) : نقر كنقر الغراب ! لئن مات هذا الرجل وصلاته هكذا ليموتن على غير ديني ! " .
وعن النبي ( ص ) قال " الصلاة ميزان : من وفى استوفى " .
وعن الإمام الصادق ( ع ) قال " إذا صليت صلاة فريضة فصلها لوقتها صلاة مودع يخاف أن لايعود اليها أبداً . ثم أصرف بصرك الى موضع سجودك , فلو تعلم من على يمينك وشمالك لأحسنت صلاتك . وأعلم أنك بين يدي من يراك ولاتراه " .
وعن أمير المؤمنين ( ع ) قال " إن أسرق الناس من سرق صلاته !" الوسائل ج 3 ص 21 – 24 .
وعن الإمام الباقر ( ع ) قال " إن العبد ليرفع له من صلاته نصفها أو ثلثها أو ربعها أو خمسها .. فما يرفع له إلا ما أقبل عليه منها بقلبه " الوسائل ج 3 ص 52 .
وأما ترك الصلاة كلياً فقد حذرت من خطورته نصوص كثيرة . وأهم حقيقتين في هذه النصوص أن ترك الصلاة يعتبر قطع آخر رابطة تربط الإنسان بالله عز وجل . وأن تاركها يقترن بفقدان الإنسان للقياس السلوكي الأمر الذي يجعله فريسة للشهوات الرخيصة .
ففي سورة مريم يتحدث القرآن الكريم عن الذين أنعم الله عليهم من ذرية آدم وخيار أبنائه ثم يشير الى الانحرافات التي كانت تحدث من بعدهم فيقول :
" ...فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً . إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا " 59 – 60 مريم .
وعن النبي ( ص ) قال " لايزال الشيطان ذعرا من ابن آدم ما حافظ على الصلوات الخمس لوقتهن . فإذا ضيعهن اجترأ عليه فأدخله في العظائم " الوسائل ج 3 ص 18 .
وعن الإمام الصادق ( ع ) قال " جاء رجل الى النبي ( ص ) فقال : يا رسول الله أوصني , فقال ( ص ) : لاتدع الصلاة متعمداً , فان من تركها متعمداً , فقد برئت منه ملة الإسلام ! " الوسائل ج 3 ص 29 .
وقد يبدو الحكم على تارك الصلاة بأنه مقطوع الرابطة بالاسلام وبأنه تابع لشهواته حكماً قاسياً , ولكن الملاحظة توضح منطقية هذا الحكم :
ان الإسلام طريقة معينة في التفكير والسلوك لها تكاليفها و شروطها .. فمن الطبيعي أن لا يعد الإنسان منتميا الى هذه الطريقة ما لم يتحمل التكاليف والشروط .
وبديهي أن أول شروط الإنتماء الى طريقة العيش الإسلامية إستعداد الانسان أن يتملى روح هذه الطريقة وأن يركزها في نفسه كل يوم من أجل أن يفي بتكاليفها ويتعامل مع الحياة من خلالها .. أما اذا رفض تركيز روحها في نفسه أو تقاعس عن ذلك فإن هذا يعني عدم استعداده للنهوض بتكاليفها , وبالتالي رفضه للعيش بالطريقة الإسلامية .
ماذا يبقى من إسلام ( المسلم ) إذا خلى مؤثرات الحياة المختلفة تتكاثف على نفسه , على فكره ومشاعره وإحساسه بالحياة دون أن يجلوها بوقفة بين يدي نفسه ويدي الله تعيد إليه روح الإسلام واستقامته .. ؟
إن مثله مثل الذي يؤمن بالنظافة ويريدها , ولكنه يترك الغبار و الأدران تتكاثف على جسمه , فهو بالحقيقة لايريد النظافة ولايؤمن بها إيماناً فعالاً .
فليس من الغريب إذن أن يكون ترك الصلاة بمثابة قطع آخر رابطة تصل الانسان بملة الإسلام وطريقته في العيش ما دامت هذه الفريضة من أول الشروط العملية لاستكناه هذه الملة والعيش على هداها .
كذلك ليس من الغريب أن يقترن ترك الصلاة باتباع الشهوات , لأنه لامعنى للتخلي عن التفاعل مع طريقة العيش الإسلامية إلا الإنحراف بطريقة عيش ثانية تتصف بالهوى والاستسلام للنوازع القريبة والإبتعاد عن مواجهة الحياة بروح مؤمنة جادة . ولنا من حياة المضيعين لصلاتهم خير دليل على التلازم بين إضاعة الصلاة وإطاعة النوازع الشهوية الزائلة .. ولنا من تقرير الله عز وجل لهذه الحقيقة خير دليل على ثبوتها في نفس الإنسان وحياته ..
المصدر : فلسفة الصلاة .